كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وسنجد أحكامًا صريحة واضحة في جميع هذه الحالات؛ التي تكوّن جانبًا من مبادئ التعامل في المحيط الدولي. شأنها شأن بقية الأحكام، التي تتناول شتى العلاقات الأخرى.
ونبدأ من حيث بدأ السياق القرآني بالقاعدة الأولية التي يقوم عليها بناء الإسلام كله. وبناء النظام الإسلامي في شتى جوانبه:
{الله لا إله إلا هو ليجمعنكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه. ومن أصدق من الله حديثًا}
إنه من توحيد الله سبحانه وإفراده بالألوهية تبدأ خطوات المنهج الرباني- سواء في تربية النفوس أم في إقامة المجتمع، ووضع شرائعه وتنظيمه؛ وسواء كانت هذه الشرائع متعلقة بالنظام الداخلي للمجتمع المسلم، أم بالنظام الدولي، الذي يتعامل هذا المجتمع على أساسه مع المجتمعات الأخرى. ومن ثم نجد هذا الافتتاح لمجموعة الآيات المتضمنة لطائفة من قواعد التعامل الخارجية والداخلية أيضًا.
كذلك من الاعتقاد في الآخرة، وجمع الله الواحد لعباده، ليحاسبهم هناك على ما أتاح لهم في الدنيا من فرص العمل والابتلاء، تبدأ خطوات هذا المنهج في تربية النفوس، وإثارة الحساسية فيها تجاه التشريعات والتوجيهات؛ وتجاه كل حركة من حركاتها في الحياة.. فهو الابتلاء في الصغيرة والكبيرة في الدنيا؛ والحساب على الصغيرة والكبيرة في الآخرة.. وهذا هو الضمان الأوثق لنفاذ الشرائع والأنظمة؛ لأنه كامن هناك في أعماق النفس، حارس عليها، سهران حيث يغفو الرقباء ويغفل السلطان!
هذا حديث الله سبحانه وهذا وعده: {ومن أصدق من الله حديثًا}.
وبعد هذه اللمسة للقلوب، وهي اللمسة الدالة على طريقة هذا المنهج في التربية، كما هي دالة على أساس التصور الاعتقادي العملي في حياة الجماعة المسلمة.
بعد هذه اللمسة يبدأ في إستنكار حالة من التميع في مواجهة النفاق والمنافقين؛ وقلة الحسم في موضع الحسم في معاملة الجماعة المسلمة لهم؛ وانقسام هذه الجماعة فئتين في أمر طائفة من المنافقين- من خارج المدينة كما سنبين- حيث يشي هذا الاستنكار بما كان في المجتمع المسلم يومئذ من عدم التناسق؛ كما يشي بتشدد الإسلام في ضرورة تحديد الأمور وحسمها، وكراهة التميع في التعامل مع المنافقين والنظر إليهم؛ والارتكان إلى ظاهرهم.. ما لم يكن ذلك عن خطة مقررة هادفة:
{فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا. ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء. فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله. فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليًا ولا نصيرًا}.
وقد وردت في شأن هؤلاء المنافقين روايات، أهمها روايتان:
قال الإمام أحمد: حدثنا بهز، حدثنا شعبة، قال عدي بن ثابت: أخبرني عبدالله بن يزيد، عن زيد بن ثابت، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد، فرجع ناس خرجوا معه. فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فرقتين: فرقة تقول: نقتلهم، وفرقة تقول: لا. هم المؤمنون! فأنزل الله: {فما لكم في المنافقين فئتين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنها طيبة. وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد». (أخرجاه في الصحيحين من حديث شعبة).
وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت في قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام؛ وكانوا يظاهرون المشركين. فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم. فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس.. وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله:- أو كما قالوا- أتقتلون قومًا قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ من أجل أنهم لم يهاجروا، ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم؟ فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحدًا من الفريقين عن شيء، فنزلت: {فما لكم في المنافقين فئتين}.. (رواه ابن أبي حاتم، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا).
ومع أن الرواية الأولى أوثق من ناحية السند والإخراج إلا أننا نرجح مضمون الرواية الثانية، بالاستناد إلى الواقع التاريخي؛ فالثابت أن منافقي المدينة لم يرد أمر بقتالهم؛ ولم يقاتلهم الرسول صلى الله عليه وسلم أو يقتلهم. إنما كانت هناك خطة أخرى مقررة في التعامل معهم. هي خطة الإغضاء عنهم، وترك المجتمع نفسه ينبذهم، وتقطيع الأسناد من حولهم بطرد اليهود- وهم الذين يغرونهم ويملون لهم- من المدينة أولًا. ثم من الجزيرة العربية كلها أخيرًا.. أما هنا فنحن نجد أمرًا جازمًا بأخذهم أسرى، وقتلهم حيث وجدوا: مما يقطع بأنهم مجموعة أخرى غير مجموعة المنافقين في المدينة.. وقد يقال: إن الأمر بأخذهم أسرى وقتلهم مشروط بقوله تعالى: {فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم}.. فهو تهديد ليقلعوا عما هم فيه.. وقد يكونون أقلعوا فلم ينفذ الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر فيهم.. ولكن كلمة {يهاجروا} تقطع- في هذه الفترة- بأنهم ليسوا من أهل المدينة. وأن المقصود هو أن يهاجروا إلى المدينة؛ فقد كان هذا قبل الفتح. ومعنى الهجرة- قبل الفتح- كان محددًا بأنه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام؛ والانضمام للجماعة المسلمة؛ والخضوع لنظامها.
وإلا فهو الكفر أو النفاق.. وسيجيء في سياق السورة- في الدرس التالي- تنديد شديد بموقف الذين بقوا- بغير عذر من الضعف- من المسلمين في مكة؛ دار الكفر والحرب بالنسبة لهم- ولو كانوا من أهلها ومواطنين فيها!- وكل هذا يؤيد ترجيح الرواية الثانية. وأن هؤلاء المنافقين كانوا جماعة من مكة- أو ممن حولها- يقولون كلمة الإسلام بأفواههم، ويظاهرون عدو المسلمين بأعمالهم.
ونعود إلى النص القرآني: {فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا. ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء. فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله. فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليًا ولا نصيرًا}.
إننا نجد في النصوص استنكارًا لانقسام المؤمنين فئتين في أمر المنافقين وتعجبًا من اتخاذهم هذا الموقف؛ وشدة وحسمًا في التوجيه إلى تصور الموقف على حقيقته، وفي التعامل مع أولئك المنافقين كذلك.
وكل ذلك يشي بخطر التميع في الصف المسلم حينذاك- وفي كل موقف مماثل- التميع في النظرة إلى النفاق والمنافقين؛ لأن فيها تميعًا كذلك في الشعور بحقيقة هذا الدين. ذلك أن قول جماعة من المؤمنين: «سبحان الله!- أو كما قالوا- أتقتلون قومًا قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم، نستحل دماءهم وأموالهم؟».. وتصورهم للأمر على هذا النحو، من أنه كلام مثل ما يتكلم المسلمون! مع أن شواهد الحال كلها وقول هؤلاء المنافقين: «إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس».. وشهادة الفئة الأخرى من المؤمنين وقولهم: «يظاهرون عدوكم».. تصورهم للأمر على هذا النحو فيه تمييع كبير لحقيقة الإيمان، في ظروف تستدعي الوضوح الكامل، والحسم القاطع. فإن كلمة تقال باللسان؛ مع عمل واقعي في مساعدة عدو المسلمين الظاهرين، لا تكون إلا نفاقًا. ولا موضع هنا للتسامح أو للإغضاء. لأنه تمييع للتصور ذاته.. وهذا هو الخطر الذي يواجهه النص القرآني بالعجب والاستنكار والتشديد البين.
ولم يكن الحال كذلك في الإغضاء عن منافقي المدينة. فقد كان التصور واضحًا.. هؤلاء منافقون.. ولكن هناك خطة مقررة للتعامل معهم. هي أخذهم بظاهرهم والإغضاء إلى حين.
وهذا أمر آخر غير أن ينافح جماعة من المسلمين عن المنافقين. لأنهم قالوا كلامًا كالذي يقوله المسلمون. وأدَّوا بألسنتهم شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. بينما هم يظاهرون أعداء المسلمين!
من أجل هذا التميع في فهم فئة من المسلمين، ومن أجل ذلك الاختلاف في شأن المنافقين في الصف المسلم، كان هذا الاستنكار الشديد في مطلع الآية.
ثم تبعه الإيضاح الإلهي لحقيقة موقف هؤلاء المنافقين:
{والله أركسهم بما كسبوا}.
ما لكم فئتين في شأن المنافقين. والله أوقعهم فيما هم فيه بسبب سوء نيتهم وسوء عملهم؟ وهي شهادة من الله حاسمة في أمرهم. بأنهم واقعون في السوء بما أضمروا وبما عملوا من سوء.
ثم استنكار آخر:
{أتريدون أن تهدوا من أضل الله}.
ولعله كان في قول الفريق.. المتسامح!!.. ما يشير إلى إعطائهم فرصة ليهتدوا، ويتركوا اللجلجة! فاستنكر الله هذا في شأن قوم استحقوا أن يوقعهم الله في شر أعمالهم وسوء مكاسبهم.
{ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا}.
فإنما يضل الله الضالين. أي يمد لهم في الضلالة حين يتجهون هم بجهدهم ونيتهم إلى الضلالة. وعندئذ تغلق في وجوههم سبل الهداية؛ بما بعدوا عنها، وسلكوا غير طريقها؛ ونبذوا العون والهدى، وتنكروا لمعالم الطريق!
ثم يخطو السياق خطوة أخرى في كشف موقف المنافقين.. إنهم لم يضلوا أنفسهم فحسب؛ ولم يستحقوا أن يوقعهم الله في الضلالة بسعيهم ونيتهم فحسب.. إنما هم كذلك يبتغون إضلال المؤمنين:
{ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء}.
إنهم قد كفروا.. على الرغم من أنهم تكلموا بما تكلم به المسلمون، ونطقوا بالشهادتين نطقًا يكذبه العمل في مظاهرة أعداء المسلمين.. وهم لا يريدون أن يقفوا عند هذا الحد. فالذي يكفر لا يستريح لوجود الإيمان في الأرض ووجود المؤمنين. ولابد له من عمل وسعي، ولابد له من جهد وكيد لرد المسلمين إلى الكفر. ليكونوا كلهم سواء.
هذا هو الإيضاح الأول لحقيقة موقف أولئك المنافقين.. وهو يحمل البيان الذي يرفع التميع في تصور الإيمان؛ ويقيمه على أساس واضح من القول والعمل متطابقين. وإلا فلا عبرة بكلمات اللسان، وحولها هذه القرائن التي تشهد بالكذب والنفاق:
والقرآن يلمس مشاعر المؤمنين لمسة قوية مفزعة لهم، وهو يقول لهم:
{ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء}.
فقد كانوا حديثي عهد بتذوق حلاوة الإيمان بعد مرارة الكفر. وبالنقلة الضخمة التي يجدونها في أنفسهم، بين مشاعرهم ومستواهم ومجتمعهم في الجاهلية.. ثم في الإسلام. وكان الفرق واضحًا بارزًا في مشاعرهم وفي واقعهم، تكفي الإشارة إليه لاستثارة عداوتهم كلها لمن يريد أن يردهم إلى ذلك السفح الهابط- سفح الجاهلية- الذي التقطهم منه الإسلام؛ فسار بهم صعدًا في المرتقى الصاعد، نحو القمة السامقة.
ومن ثم يتكئ المنهج القرآني على هذه الحقيقة؛ فيوجه إليهم الأمر في لحظة التوفز والتحفز والانتباه للخطر البشع الفظيع الذي يتهددهم من قبل هؤلاء: {فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله. فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ولا تتخذوا منهم وليًا ولا نصيرًا}.
ونحس من النهي عن اتخاذ أولياء منهم.
أنه كانت ما تزال للروابط والوشائج العائلية والقبلية بقايا في نفوس المسلمين في المدينة- وربما كان للمصالح الاقتصادية أيضًا- وكان المنهج القرآني يعالج هذه الرواسب؛ ويقرر للأمة المسلمة قواعد ارتباطاتها. كما يقرر قواعد تصورها في الوقت ذاته.
كان يعلمها أن الأمة لا تقوم على روابط العشيرة والقبيلة، أو روابط الدم والقرابة. أو روابط الحياة في أرض واحدة أو مدينة واحدة أو روابط المصالح الاقتصادية في التجارة وغير التجارة.. إنما تقوم الأمة على العقيدة؛ وعلى النظام الاجتماعي المنبثق من هذه العقيدة.